عــــكـــا … الأرض المُرَصَعة بالصمود

عــــكـــا …
الأرض المُرَصَعة بالصمود
شيرين ماهر
تاريخها الطويل يحوى بين صفحاته أيات النصر .. موجها المُتلاطِم يصفع الطامعين ويلقنهم درساً فى الصمود.. سورها العتيق يحتضن خصوصية الأرض المقدسة.. شعبها المُدجَج بـ “عتَاد” الكفاح لا يزال يتهجى أنشودة الأمل، واضِعاً وردات التأبين بين أشهاد القبور الخضراء.. لم تنطفىء بعد جذوة الحماس بين ربوعها الشجية.. ولم تفقد إرث الماضى الذى جعلها زهرة يتطلع إليها الجميع ولا يتجرأ ون على قطفها .
عكا .. مدينة “صلاح الدين الأيوبى” و “قاهِرة” نابليون .. صاحبة التاريخ الطويل مع الغزاة والطامعين، الذين عجزوا عن تغير ملامحها أو طمس هويتها . عكا .. أقدم مدن فلسطين التاريخية والتى تقع في الجهة الشمالية الغربية من فلسطين على طول ساحل البحر الأبيض المتوسط من خليج حيفا، و أحد المدن التاريخية المدرجة ضمن تراث اليونسكو العالمي.
يعود تاريخها إلى العصر الكنعانى ، حيث بناها الكنعانيون قبل نحو 4000 عام ، وأطلقوا عليها اسم “عكو” أى “الرمل الحار”. وفي القرنَين التاسع عشر، والعشرين، خضعت لحُكم الفراعنة، إلى أن دخلَها الفينيقيّون، ثم تعاقَب على حُكمها كلٌّ من الفاطميّين، والسلاجقة، والصليبيّين. حكم المدينة العثمانيون فى عام 1517. وفى عام 1918م خضعت للانتداب البريطانيّ، ثم سيطر عليها الاحتلال الاسرائيلى في عام 1948، ليسكنها الأن اليهود والفلسطينيين معاً.
تحصّنت عكا منذ القِدَم بالأسوار؛ لحمايتها من الغزوات، والحروب الخارجيّة، ومن بين أهم الأسوار التى طوقتها سور “الجزار”- سمى بهذا الاسم نسبة إلى حاكمها إبان الخلافة العثمانية أحمد باشا الجزار- حيث جرى إقامته على بعد 15 متر من السور الداخلي للمدينة، ويتألف من تسعة أبراج للمراقبة، شملت مرابض ضخمة للمدفعية أثناء الحصار الفرنسي، إذ فشل نابليون فى اقتحام أسوارها ، واضطر إلى الانسحاب منها، بعد حصار دام أربعة وستين يومًا.
والواقع مازالت المدينة تحتفظ بذاكرة فتية لا تُفلِت التفاصيل، إذ تضم العديد من المزارات التاريخية، من بين أهمها؛ “قلعة عكا” المسماة ب “قلعة الجزار” التى تقع في الجهة الشماليّة للمدينة، ويبلغ ارتفاعها 40م، إذ تضمُّ بُرج الخزنة الذي استُخدِم كقصر للجزّار باشا، وخلفائه، فضلاً عن ساحةَ “الجبخانة” الواقعة في الجزء الجنوبيّ الشرقيّ منها، وساحة “القشلة” التي استُخدِمت كـ “ثكنة” عسكريّة للجنود.. حوت القلعة فيما بعد ما عُرِف بـ “سجن عكا” الذى يوجد به العديد من أضرحة المناضلين، ومنها؛ أضرحة الشهداء الثلاث الذين أعدمهم الإنجليز عقب موقعة “البُراق”، وهم؛ فؤاد حجازي، ومحمد جمجوم، وعطا الزير .
تنتشر بالمدينة أيضاً الحمامات ذات الطراز التركي، ومنها؛ حمام الباشا، وهو حمام كبير على الطراز الإسلامي، ويمتاز بأنه لا يوجد فيه نوافذ؛ ويستمد الإضاءة بواسطة الزجاج الملون الموجود بالأسقف المُقببة، وفي مدخله يوجد الكثير من الغرف التي تم إستخدامها لتخزين متعلقات الحمام.
كذلك يغلب على المدينة الطابع الروحانى، فهى مزار دينى، لكونها تزخر بالمساجد والكنائس على حد سواء. ويعد مسجد “الجزار” – الذي بناه “أحمد باشا الجزار” عام 1781م – من أروع مظاهر الفنّ الإسلامي في العهد العثماني. يعد المسجد أيضاً أكبر جامعٍ بفلسطين، إذ يجذب كثير من السائحين، ليتمتعوا بجمال الكتابة الفاخرة لمختلف الآيات القرآنية التي تحيط بالقسم العلوي من جدران المسجد. توجد أيضاً بالمدينة كنيسة “القديس يوحنا” التى شيدت عام 1737 على أنقاض الكنيسة الصليبية، وتستأثر بإطلالة ساحرة تتمازج فيها جدرانها البيضاء الناصعة مع برج “الجرس الأحمر” بواجهته الحجرية المشرقة.
إذا سألونك عن القلب النابض لمدينة “عكا”، أروى لهم أقاصيص “مينائها” الشهير الذى كان بوّابة الأوروبّيين إلى بلاد الشرق خلال القرون الوُسطى، وحظى بمكانة هامة طوال تاريخها. هذا الميناء بمثابة قصة حب لا يعرفها سوى “العكّاويين”- وهى التسمية الأقرب إلي قلوبهم – إذ يرمز للأمل والحرية ويستمدون منه طاقة النور التى لا تتبدد، حيث البحر الرحب الذى يحفظ عهد أهله الأولين.
وإذا ما قررت التجوال ليلاً على طول الساحل الساطع ذى الإضاءة الأرجوانية، تكون قد ظفرت بشهيق الحرية المُشبَع بدعوات الخلاص.. فستظل “عكا” هى أرض الانتصارات حتى وإن باتت رهينة داخل حدود المُحتَل، فقد حجبتها أسوارها العظيمة عن أعين السفهاء، لتظل تحتضِن إرثها وتُطبِق عليه الأعين حتى لا تشتهيه أنظار السارقين.