حول العالم في 200 يوم

بعد اكثر من خمسين عاما على نشره باحث هندي يحلل
كتاب ”حول العالم في 200 يوم” لأنيس منصور
د. وصي الله الندوي
هذا الكتاب صدر لأول مرة عام 1963م، وأحدث صدى كبيرا في الأوساط الأدبية والصحفية، ووزع توزيعا ضخما، حتى أصبح أكثر الكتب توزيعا بشهادة منظمة اليونيسكو حيث طبع عدة طبعات نفدت كلها. وقد أثار الكتاب إعجاب الدكتور طه حسين فكتب مقالا في صحيفة “أخبار اليوم” سجل فيه مدى متعته بقراءة هذا الكتاب، ومما قاله في هذا المقال:
“هذا كتاب ممتع حقا، تقرؤه فلا تنقص متعتك بل تزيد كلما تقدمت في قراءته، ومع أنه من الكتب الطوال جدا فميزته الكبرى هي أنك حين تقرؤه لا تحتاج إلى راحة، وإنما تود لو تستطيع أن تمضي فيه حتى تبلغ آخره في مجلس واحد، لأنك تجد فيه المتعة والراحة والسلوى وإرضاء حاجتك إلى الاستطلاع”
ثم كتب طه حسين مقدمة لطبعته الثالثة بأسلوب شيق يقول فيها: “ومن المحقق أن هذه الرحلة الرائعة يمكن أن تقرن إلى الرحلات العربية القديمة، من يدري لعلها أن تمتاز عنها ببعض الخصال، فصاحب الكتاب حلو الروح، خفيف الظل، بعيد أشد البعد عن التكلف والتزيد والإدلال، بما يصل إليه من الغرائب التي يسجلها في كتابه، وإنما هو يمضي في الكتابة مع اليسر والإسماح، مرسلا نفسه على سجيتها، مطلقا لقلمه الحرية في الجد والهزل وفيما يشق وما يسهل، لا يتكلف الفصحى ولا يتعمد العامية. وإنما كتابه مزيج معتدل منسجم من اللهجتين، وهو لا يقصد إلى أن يبهرج ولا إلى أن يغرب عليك في لفظ أو معنى، وإنما يستجيب لطبعه ويظفر برضاء الطباع السمحة التي تكره التكلف والتحذلق والإسفاف”.
ويقول: “وقد أخذت في قراءته ذات يوم فكان أشد ما أضيق به العوارض التي تعرض فتصرفك عما أنت فيه على كرهك لهذا والضجر به والإحساس الذي لا يفارقك في أثناء القراءة هو أنك مع الكاتب تشهد ما يشهد وتسمع ما يسمع وتجد ما يجد من ألم أو لذة ومن سخط أو رضا، تسافر معه وتقيم حين يقيم مع أنك لا تبرح مكانك. وإنما هي براعة الكاتب وإسماحه يستأثران بك ويخيلان إليك أنك تلزمه في حركته وسكونه كأنك ظل له لا تفارقه” .
يصف أنيس منصور تجربته التي ضمنها هذا الكتاب المثير الممتع فيقول: “لقد كان العالم كتابا كريما عريضا طويلا غنيا بألفاظه ومعانيه، كنت أقرأ بعقلي وقلبي وأقلب الصفحات بيدي ورجلي، وكنت أضع حقيبتي الوحيدة في مهب الطائرات والعواصف، وأنا لا أدعي أنني ألممت بكل شيئ ولا رأيت كل شيئ ولا حتى رتبت هذا الكلام. وإنما نشرته كما كتبته بنفس الانطلاق والسرعة والمرح فقد كان المرح والسخرية هما التعويض الوحيد الذي كانت تناله نفسي من التعب والإرهاق والوحدة، فقد كنت مسافرا وحيدا، في يدي حقيبة بها ملابس قليلة جدا، وكلما بليت الملابس ألقيتها واشتريت غيرها”
جاءت فصول هذا الكتاب صورة لأفكاره ومتاعبه ومشاكله، فقد كتب هذه الفصول جالسا مقرفصا في سريره هربا من البعوض وأحيانا خوفا من الأفاعي والعقارب، وكتبها تحت أشجار الموز وكتبها في ظلال جوز الهند وعلى منضدة استأجرها من حديقة الدومين في مدينة سيدني، وكتبها على مصابيح الجيشا في كيوتو وسجلها وكان مريضا وسجلها وكان خائفا من الطريق الطويل الذي لم يمش فيه أحد قبله.
ثم يقول أنيس منصور في مقدمة الطبعة الثانية: “ولو طلبت مني أيها القارئ أن ألقي قلمي الآن وأدور حول العالم من جديد، نفس الطريق ونفس الأمراض ونفس المخاوف فإنني لن أتردد، فليس في الدنيا أروع من أن يستمتع بقراءتها بعد ذلك كل الذين لم يسافروا وكل الذين يحلمون ببلاد بعيدة جديدة”
وفي هذا الكتاب تتجلى روح الظرف والمنادمة، وفيه أوصاف شائقة للمشاهدات والانطباعات في أسلوب كثير التوابل
“حول العالم في 200 يوم” لأنيس منصور الذي فاز به بجائزة الدولة التشجيعية سنة 1962م من الرئيس جمال عبدالناصر، كما يقول مأمون غريب:
“وأشهر كتب أنيس منصور في مجال الرحلة هي بلا شك كتابه “حول العالم في 200 يوم” الذي كان أكثر الكتب توزيعا بشهادة اليونيسكو، كما أنه الكتاب الذي نال عليه جائزة الدولة، ووصفت لجنة التحكيم كتابه الفائز بالجائزة بأنه الكتاب الذي ألف نتيجة رحلته العقلية التي سجل في أثنائها انطباعاته الشخصية إلى جانب ما انطوى عليه كتابه من معلومات جديدة تصور الحياة كما رآها، فبدت في الكتاب انطباعاته الشخصية من نواحي المعرفة العامة والفن الشخصي وأنه تحرى الصدق بحيث لم يصبح كتابه دعاية أو تشويها للحقائق أو لغاية معينة، وإنما لصاحبه أسلوبه الذاتي في التعبير والكتابة مما يدخل مؤلفه في عداد الكتب الأدبية التي ترتفع إلى مستوى الجائزة
قد أخذت هذه الرحلة من صاحبها سبعة أشهر تطوافا، وأخذت من المتلقي حوالي سبعمائة صفحة من القطع الكبير قرأة، زار فيها أنيس منصور اليابان والهند وسيلان وسنغافورة وإندونيسيا وأستراليا وهونج كونج ثم أمريكا. كما يكتب المؤلف في مقدمة الكتاب:
“والمسافر كما يقال المثل الإنجليزي يجب أن يكون له عينا صقر ليرى كل شيئ، وأن تكون له أذن حمار ليسمع كل شيئ، وأن يكون له فم خنزير ليأكل أي شيئ، وأن يكون له ظهر جمل ليتحمل أي شيئ، وأن تكون له ساقا معزة لا تتعبان من المشي، وأن يكون له – وهذا هو الأهم – حقيبتان، إحداهما امتلأت بالمال والثانية بالصبر، وقد حفظت هذا المثل جيدا، وإن كنت قد نسيت كثيرا ما الذي أفعله كالصقر، وما الذي أفعله كالحمار ولكن لم أنس أن أكون جملا وأن أصبر، فالله مع الصابرين”
هكذا نرى أنيس منصور أنه لا يرتبط أساسا بذكر الأشياء النادرة بل يلتفت إلى الواقع الذي يتعلق بالحياة الشعبية العادية الخصبة التي يتنفسها الناس في بلادهم، وهذا هو أحد الفروق بين كاتب الرحلة في القديم والحديث، وكاتبنا هو يعيش التجربة، أنه لا يتحدث من خارجها، بل يحاول أن يشارك فيها ما أمكنه. ولذلك فهو يرتدي مثلا “الدوتي” هو عبارة عن فوطة تلتف حول الوسط وليس فوقها إلا القميص كما يفعل أبناء الهند وسيلان، ويسير بهذا اللباس في المطر بلا جورب وحذاء ويدفع الثمن في صورة انفلونزا الحادة
حينما نرى أسلوب أنيس منصور فنجده شائقا ممتعا، وكذلك لا نجد نظيره كثيرا عند أساتذة الفلسفة الذين يكتبون في الصحف. يستخدم الأسلوب التلغرافي ولكنه في استعماله لا يهبط به إلى أن يكون جافا أو عاميا أو مبتذلا، وهو كصحفي يعرف كيف يستولي على الجماهير ويستحوذ على انتباهها بالأشياء التي تهتم بها وتبحث عنها